تنتشر على سلسلة جبال لبنان الغربية، مواقع أثرية يونانية ورومانية، كانت مقام الملوك والأباطرة والقادة العسكريين، ومراكز لإقامة الطقوس الدينية الرائجة في زمنها. من الأدوار الهامة التي لعبتها هذه المواقع ما يشبه شبكة التواصل بين مراكز السلطات المتعاقبة، فمنها وإليها أعطيت الإشارات بالنار بطريقة متعارفٍ عليها، وكانت النيران تشاهد ليلاً بين موقع وآخر مهما ابتعدت المسافات، فيعرف المقيمون في الموقع ما المطلوب الوافد عبر النار، من مركز القرار.
هذه المواقع المنتشرة على القمم، كانت أشبه بشبكة التواصل التي حل محلها اللاسلكي لاحقاً، والإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة، حالياً.
كثيرة هذه المواقع على السلسلة الغربية للمتوسط، وهي تبدأ في نقطة أقصى الشمال بموقع على الحدود اللبنانية- السورية في منطقة تعرف بجبل أكروم، وأخرى تدعى "قلعة السفيرة" في الضنية، تقابلها معابد عين عكرين وبزيزا في الكورة، وتمتد جنوباً إلى العديد من المواقع الأخرى.
اختيرت هذه المواقع بطريقة تنكشف فيها أمام بعضها ويتعذّر منع التواصل فيما بينها، بجبل مثلاً، أو تلة، أو منشأة مدنية، من شأنها أن تقطع ذلك التواصل.
ومع مرور الزمن الطويل، تعرضت هذه المواقع لأضرار طبيعية، وكثير منها كادت تغيب ملامحه وتفاصيله، ومنها ما لا يزال يحتفظ بشكله، إلى حد بعيد، كمعبدَي عين عكرين المتجاورين.
موقع استراتيجي:-
الموقع إلى أقصى الشمال اللبناني، يُعرف بـ"الحُصَيْن"، أي الحصن الصغير، ويقوم أمام بلدة "أكروم" لجهة الغرب، على تلّة خضراء ترتفع نحو 70 متراً عن البلدة، لتُشَكِّل موقعاً يشرف على بحيرة حمص من الجهة الشمالية الشرقية، وعلى وادٍ يعرف بوادي السبع الذي كان ممرّ المحاربين من الجهة الغربية، وعلى باقي قرى جبل أكروم من الجهة الشمالية.
ما ميّز "الحصين" عن بقية المواقع إنه شكّل موقعاً استراتيجياً في العالم القديم، فإلى جانب كونه يكمل مراكز الاتصال على الممر القديم بين الساحل والعمق السوري، كان يشكل نقطة ثقل بين مدينتي طرابلس الساحلية، وبعلبك الداخلية في البقاع، وهي أهميّة تُضاف إلى جماله، ولُطْف مناخه.
وأسوة بباقي المواقع الأثرية، فقد تعاقبت على "قلعة الحصين"، كلّ الشعوب التي وفدت فاتحة، شرقي المتوسط، ويبدو من الآثار التي لا يزال قسم هام منها ظاهراً للعيان، أنها تعود أساساً إلى العصر الإغريقي، حيث لا تزال بقايا أعمدة، وقناطر، وجدران منتصبة حتى الآن.
بناء من قسمين:-
وتتحدث مصادر تاريخية عن أن هذا المعبد كان يتألف من قسمين: الأول، من الجهة الشمالية، ويضم غرفة التقادم للآلهة، أو المذابح، أي ما يقدمه الناس من نذور إرضاء للآلهة في زمانهم، وينتهي غرباً بـ "تشيلا"، أو "قدس الأقداس"، وهي غرفة نذور العذارى عند اليونانيين، ويتكوّن مدخل هذه الغرفة من قنطرة حجارتها ضخمة، ترتفع نحو ثلاثة أمتار، وما تزال قائمة إلى الآن.
أما غرفة "التقادم" فبقي منها المدخل الجنوبي، وهو باب مُكَوّن من عمود يحمل عتبةً تتكئ على الجدار الجنوبي للغرفة، ويُطِلّ على باحة أمام المعبد الجنوبي. أما الجدار الشمالي فيحمل بقايا كورنيش للسقف الذي تهدم كليّاً. وتتراكم الحجارة، وبقايا الأعمدة في باحة هذه الغرفة وأمامها، وبين هذه الحجارة تاج كورنثي تطايرت بعض أوراقه، ومن المؤكد أن العديد من عناصره قد اختفى.
المعبد الجنوبي أكبر حجماً من الشمالي، ويتراجع عنه نحو 3 أمتار، تهدّم الجزء الأكبر منه في حين لا تزال أعمدته من الجهة الشرقية منتصبةً، وتبعثرت أجزاء منها أيضاً، في أرجاء الموقع. أعمدته ضخمة، يقارب قطر العمود منها المتر، ويفصل بين المعبدين بناء من جدران سميكة، سُقفت بالطين والفخار، وكانت تستخدم إما لسكن الحارس، أو لحراسة المعبدين، أو للاحتفاظ بالذبائح أو القرابين.